إِنَّ الحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ ونَسْتَغْفِرُهُ ونَتُوبُ إِلَيْهِ، ونَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرورِ أَنْفُسِنا ومن سَيِّئاتِ أَعْمالِنَا، مَن يَهْدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ ومَن يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ وأَشْهَدُ أَنَّ محمَّدًا عَبْدُه ورَسُولُهُ، صَلِّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وأَصحابهِ وأتباعهِ بإحسانٍ إلى يومِ الدين.
أَمّا بَعْدُ: فيا معشَرَ الإخوة يقولُ اللهُ - جَلَّ وَعَلا-: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر 28]، ويقولُ - جَلَّ وَعَلا-: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ الزمر 9] ففي هَاتين الآيتين إشادةٌ بأهلِ العلِم، وتنويهٌ بفضلهم، وذِكْرٌ لعلوِّ منزلتهم.
فأما الآية الأولى فَقصَرَ الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الخشيَةَ الحقيقيَّةَ في أَكْمَلِ وجوهها على طَآئِفَةٍ مِنَ النَّاس، ألا وهم العلماء، وذلك لأنهم هم الذين عرفوا ربَّهم - تَبارَكَ وَتَعَالَى - حقَّ المَعرِفة، وَمَن كان باللهِ أعرَف، كانَ منهُ أخوَف، ولأجل هذا استشهد الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بهم مع ملائكته على توحيده - جلَّ وَعَلا- وذلك في قوله: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران:١٨]، كفى بالله شهيدا، ولكنَّهُ هنا قَرَنَ مَعَهُ غَيْرهُ، فقَرَنَ شهادة الملائكة بشهادته، وقَرَنَ شهادةَ العلماء بشهادته.
فأما قَرْنُهُ للملائكة ففي ذلك تنويهٌ بفضلهم وهم يستحقّون هذا، فإنهم ﴿عِبَادٌ مُكْرَمُونَ﴾ [ الأنبياء 26]، ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّه مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [ التحريم 6]، ﴿لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ [ الأنبياء 27]، ﴿ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُون﴾ [ الأنبياء 28].
وأما الصنف الثاني: فهو بشريٌّ وهم أهل العلم، حيثُ قال: ﴿وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ، لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [ آلِ عمران 18]، ففي هذا إظهارٌ لفضلهم، حيث رفَعَهم إلى هذه المنزلة العالية الرَّفيعة ألا وهي الشهادة مَعَه - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ومع ملائكته على أعظم مشهودٍ به أو مشهودٍ عليه ألا وهو توحيده - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وحدانيتهُ وإفرادُهُ - جَلَّ وَعَلا- بالعبادة، فهذا الأمر العظيم لا يشهدُ عليه إلا العظماء من الخَلْق، وبَعْدَ الملائكة يأتي العلماء في هذه الشهادة، وهذا فيه تنويهٌ بفضلهم وكفى بذلك فضلًا، فإذا كان الله - جَلَّ وَعَلا- قد رفع منزلتهم فقَرَنَ شهادَتَهم بشهادتِهِ وشهادة ملائكته، وفي الآيتين السابقتين قَصَر الخشية الحقيقية الكاملة عليهم من دون سائرِ عبادهِ وفي آيةِ الزُّمَر أخبر عن حالهم العظيم الذي أورثتهُ معرفتهم باللهِ - تَبَارَكَ وَتَعالى- وخشيتهُم له وخوفهُم منه، ذلكم المقام هو العبادةُ لله - جَلَّ وَعَلا- في جوفِ الليل يتملقون الله - جَلَّ وعلا- ويستغفرونه ويتوبون إليهِ ويتقربون إليه ويطلبونهُ التوفيق والسَّداد وغفران الذنوبِ وستر العيوب، والتوفيق والتسديد لهم في الدنيا، والتوفيق إلى ما يحبهُ ويرضاه - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فوصفَ حالَ هؤلاء العابدين الذين قصَرَ الخشيةَ الحقيقة الكاملةَ عليهم في الآية الأولى وصفَ حالهم هنا بقوله: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ﴾ والقنوتُ هو طول القيام كما قالَ ذلك النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حينما سُئِل عَنْ أَيُّ الصَّلاةِ أَفْضَل؟ قَالَ: ((أَطْوَلُها قنوتا))، ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾ [ البقرة 238] فالمُراد بالقنوت طول القيام،﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ [الإسراء 79]، فقام - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- حتى تفطَّرت قَدَماه، والعلماء ورثة الأنبياء فكانت هذه الصفةُ العظيمة من صفاتهم التي ورِثوها من رسولهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-ألا وهو القنوتُ للهِ-تبارَكَ وتعالى- في جوفِ الليل﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ﴾ يخافُها مع عملهِ الصالح يرجو أن لا يُقبل منه، فيخاف في حالة الرخا في حالة الصحة والعافية يخافُ أن لا يُقبل منه، فيُغَلِّب جانب الخوف، فإذا غَلّب جانب الخوف شَمّرَ وازدادَ في الطاعة للهِ - تبارَكَ وتعالى- ولهذا تجد العلماء الحقيقين العاملين وجوههم أمثال المصابيح وذلك لما يُعانونهُ في الليل ويُكابدونهُ من خلوّهم بربهم - جَلَّ وعلا-يتملقونه ويسجدون له- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ويُهلِّلونه ويكبرون ويستغفرونه - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فهم أول الداخلين بعد الأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- في قولهِ - جَلَّ وعلا-: ﴿وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾ [ آل عمران 17] ذلك أن الله قد وصف حالهم هنا بقوله: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ يرجو المغفرة والعفو والستر على الذنوب، والمُسامَحة، ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾هذا هو السؤال، الجوابُ: لا، فإنَّ علِم هؤلاء حملهم على هذه الصفةِ الحميدة، وعلى هذا المقام الشريف ألا وهو القيامُ في الليل ومناجاة الخالِق - تبارَكَ وتعالى- إذا نامَ النائمون قاموا لله - تبارك وتعالى-يتهجدون يحذرون الآخرة ويرجون رحمة الله - جَلَّ وعلا-: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ هل يستوي العلماء والجُهّال؟ لا والله، لا يستوون أبدًا، قالَ - جَلَّ وَعلا-: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ أصحاب العقول الذين إذا قرؤوا هذه الآيات عرفوا معناها، فإذا كانَ اللهُ - جلَّ وَعَلا- يقول: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ فالجوابُ كما هو معلوم - مما قالهُ كل من قرأَ هذه الآية- لا، فرقٌ بين العالِم والجاهِل.
إنَّ العالِم معشرَ الأحبة أفضلُ من العُبّاد، فكيفَ بالجُهّال، فكيف بالعوام من الناس.
جاء في حَدِيِثِ أبي الدرداء - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – في السُنن، عَنْ رسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم - أنه قَالَ "فَضْلُ الْعَالِمِ عَلى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيلَة البَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ" فضلُ العالِم على من؟ على العابِد الصالِح "كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيلَة البَدْرِ" ، "لَيلَة البَدْرِ"، ليلة اكتمال نورهِ وجمالهِ وبهائِهِ، عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ وما ذلك إلا لأنهم اكتملت فيهم طاعة الله - جلَّ وعلا- وخشيتهُ ومحبتهِ ومراقبتهُ، واكتمل فيهم معرفتهم لربهم - تَبارَكَ وَتعالى- فتجَمَّلوا بذلك، وتزينوا بهِ في أنفُسِهِم ثُمَّ أناروا بهِ للآخرين الذين يَسْرُون في الأسفار ويقطعون المهامهة والمفاوز والقفار فيستضيئون بنور القمر الجميل ليلة اكتمالِ نورهِ وجمالهِ، ليلة البدر، فإن القمر أشدّ ما يكون نورًا ليلة البدر، ليلة الاكتمال، فالعُلماء اكتملوا في هذا الجانِب كما ذكرنا آنِفا، فلهذا لمّا تزينوا في أنفُسِهِم اكتملت فيهم خشية الله وطاعتهُ ومحبتهُ ومراقبتهُ واكتمل فيهم العلِم الشرعي بالله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وما يجبُ له وما يجبُ للعباد فيما بينهم أضاءوا للناس الطريق في سيرهِم إلى الله والدارِ الآخرة، فالنبيُّ - صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- فضَّلهُم هنا على العُبّاد الصالحين القانتين القائمين، فكيفَ بمن عداهم من بابِ أَوْلى.
وقد جاءَ في اَلتِّرْمِذِيُّ بإسنادٍ فيهِ مقال ولهُ طُرق يشدُّ بعضُها بعضا، وحسّنهُ الشيخ ناصِر- رحمهُ الله- ناصر الدين الألباني -رحمة الله عليه- الذي قيلَ فيه:
فَمَا عَسَى أَنْ يَقُولَ الشِّعْرُ فِي رَجُلٍ يَدْعُوهُ حتى عِداهُ ناصرَ الدِّين! حسَّنهُ لغيرهِ بطرق - رحمهُ الله- في صحيح الترغيبِ والترهيب، جاءَ في اَلتِّرْمِذِيُّعنهُ - صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- أنهُ قَال: "فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ" أيُّ منزلةٍ هذه معشر الأحبة؟ من يرتقي إلى هذه المنزلة؟ واللهِ لا يرتقي إليها أحد، وَالأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- ((لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا، وإِنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ،فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ))، فهؤلاءِ أَوفر الناس إرثًا منِ النَبيّ - صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- عُلماء الشرع، عُلماء السُّنة، عُلماءُ الأثر، عُلماء الآثارِ والأحاديثِ والأخبار هُم وُرَّاث رسول الله - صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- إذا ذُكِرَ العُلماء فهُم عُلماء الشريعة وفي مُقَدِّمتهم عُلماء الحديث والأثر فهم الذين حَفِظ الله بهم الكِتاب، فَفَسَّروهُ كما بَيَّنهُ وفسرّهُ رسول الله - صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- وتَطّلبوا في ذلك الأسانيد حتى يعرفوا الصحيح وغير الصحيح، فما صَحَّ فَسَّروا بهِ وما لم يصحّ لم يُفسروا بهِ، وهكذا تَطّلبوا أسانيد حديث رسول الله - صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- فجمعوا سُنته ورتبّوها وبوّبها على اختلاف أنواع الترتيب الذي مشوا عليه إما على الجوامِع، وإما على المُصنَّفاتِ، وإما على المعاجِمِ، وإما على الموطّئات، وإما على المسانيد، وإما على السُّنن، إلى غيرِ ذلك تتبّعوا سُننهُ - صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم - عرفوا عالِيَها من نازِلها، عرفوا صحيحها من حَسَنِها من ضعيفها، ذبُّوا عنهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- ذبّوا عنهُ وضع الوضَّاعين وكذِبَ الكذّابين، ذبُّوا عن سنته وعن شريعته، ذبّوا عن عقيدتهِ التي جاءَ بها- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فوقفوا موقف الحازِم في وجوه أهل الأهواء والبدع حينما ذَرَّت البِدعُ بقرونها، فوقفوا في وجه الخوارِج ووقفوا في وجه القَدريّة، كما وقفوا في وجه المُرجئة ووقفوا في وجه الجبريّة، كما وقفوا في وجه المُعتزِلَة والجهميّة، ووقفوا في وجه الأشاعِرَة والماتُريدية، كما وقفوا في وجه الصوفيّة الشاطحة بجميعِ طُرقها وطرائِقها المختلفة المتنوعة، ووقفوا في وجوه أهل الرأي، كما وقفوا في وجوه الزنادقة والملاحِدة، فمنهم كل عالِمٍ ونبيه وكُلُ مُفسِّرٍ وفقيه، فللهِ درّهُم وعلى اللهِ شُكرُهُم، ما أعظمَ أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم.
أيُها الإخوةُ في الله؛ إنَّ هذا الدين لم يصل إلينا إلا بفضلِ الله ورحمته حيثُ تكفّلَ بحفظهِ فقالَ - جلَّ وعلا-: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [ الحجر 9]، فحفظهُ اللهُ - جَلَّ وعلا- ومن هذا الحفظ أن هيأَ لهُ من يقومُ بحفظهِ من هؤلاءِ الرجال الأخيار والعلماء الصالحين الأبرار، فبذلَوا في ذلك الغالي والنفيس، تركوا الديار والأهل والأوطان وسافروا في سبيل حفظ هذا الدين كُلَّ مكانِ، فرحمهم الله تعالى ورضيَّ عَنهُم، فمن تعرى من معرفةِ سُنة رسول الله - صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- ولم يَكُن لهُ حظٌ منها فهذا ليس من ورثتهِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- كما قال ذلك عُلماءُ الحديث ونصّ عليهِ الحافظُ أبو حاتم بن حِبان في صحيحهِ - رحمهُ اللهُ تعالى- هؤلاء العُلماء علماء السُّنة الذين صلُبَ عودهم فيها وامتحنوا فيها واُبتلوا فيها، وثَبَتوا على ذلك كُلَّ الثبات الذي رُوِيَ لنا بالأسانيد الصحيحة في الكُتبِ المشهورة والأجزاء المنثورة هؤلاء العُلماء قاموا في هذا الدين المقام الأجل، فيجبُ علينا أن نسلُكَ سبيلهم وأن نحترم ونوقر ونُبجلَ من بين ظهرانينا مِمَّن هو على سبيلِ هؤلاء.
وقد يتشبه بهؤلاء قومٌ وليسوا منهم، وهؤلاءِ هم أصحابُ العقلِ المعيشي الذين يُريدون أن يُرضوا كُلَ أحد، يُداهنونَ في دينِ اللهِ ويُجامِلون ويظنون أنَّ ذلك المُداراة، وإنما هو من تلبيسِ إبليس، فتراهُم يسكتونَ عن الناطِقِ بالحقّ إذا كانَ قريبًا أو صديقا ويُشرشحونهُ ويُقطعونهُ إذا كانَ بعيدًا أو أجنبيًا عنهم، ما واللهِ هذه سيرةُ أهل العلِم الراسخين الصادقين الثابتين ثبوت أحمد بنِ حنبل ومن كانَ على شاكلتهِ - رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُم- فإنَّ من ثبّتَ على سُنةِ رسول الله - صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- لم يجز لهُ موالاة من عاداها وحاربها وحارب أهلها ولو كانَ أقربَ قريب، إنما أورثَ اللهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - هؤلاء الذين ذكرنا أوصافهُم، أورثَهُم الذكر الحَسَن والثناءَ الجميل، إنما هو بسببِ إتّباعهم وتجردهم للحقّ ونصرتهم لهُ وثباتهُم عليه وموالاتهم عليه.
فالواجب عليكم أيها الإخوة وعلينا جميعًا، الواجِبُ علينا أن نُبجّل علماء السُنةِ والأثر، وأن نقفَ معهم في نصرتهم موقفًا حازِما، وأن نذُبَّ عنهم طعن كلّ من طعنَ فيهم، وأن نردُ عليهِ طعنه، وأن نُبيّن له أن هؤلاءِ هُم خيرة الناس لو لم يكونوا كذلك فمن سيكون حينئذٍ؟! هؤلاء العلماء الأخيار هم الذين يستغفر الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لهم ومن في السمواتِ ومن في الأرض، وحتى الحيتان في الماء لماذا؟ لأنهُم يُعَلِّمون الناس الخير.
فيا معشر الأحبة إنكم في هذا الزمن تسمعونَ أحيانًا بل في كثيرٍ من الأحيان الطعنِ في علماء الأثرِ والشريعة القائمين بها خيرَ قيام تارةً بأنهُم عُملاء، وأُخرى بأنهُم جواسيس، وثالثةٍ بأنهُم جامدون، ورابعًا أنهُم سببُ التأخر والتخلُف، وخامسًا خرجَ من تحت عباءاتهم الإرهاب، وقُل بعد ذلك ما شئِت.
هؤلاء جميعًا يجمعهم جميعًا هذا الطعن الخبيث، وإن تنوعّت أساليبهُ وتعدَّدت طُرُقه وتشعَّبَت مناهجهُ إلا أنَّ الهدَفَ واحِد هو إسقاطُ عُلماء السُّنة، عُلماء الأثر علماء الشرع المُطهّر، فإذا سقَطَ العلماء فبمن يقتدي الناس؟ العُلماء هُم البدور في هذه الأُمة ، العُلماء هُم البدور في هذه الأُمة ولا يضرُّهُم أن يتزيَّا بِزِيِّهِم من ليس منهم على الحقيقة فقد قيلِ قديمًا (كفى بالعلمِ فضلًا أن يدَّعِيهِ غيرُ أهلهِ، وكفى بالجهلِ مَقْتّا أن يتبرأ منهُ أهلهُ)، فهؤلاءِ العُلماء الواجِبُ إنزالهم المنزل العظيم، ورفعَ مكانتهم إلى المكانةَ العالية التي أنزلهم اللهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فيها، وهؤلاء الذين ينتسبون إليهم وليسوا على شاكلتهِم، وإنما هُم كما قُلنا من أصحابِ العقل المعيشي لا يضرونهم، إذا عَرَفَهُم النَاس عَرفَوا أنهم ليسوا بالعلماء؛
يقُولُونَ لِي فِيكَ انْقِبَاضٌ وَإِنَّمَا ** رَأَوْا رَجُلًا عَنْ مَوْقِفِ الذُّلِّ أَحْجَمَا
إذَا قِيلَ هَذَا مَوْرِدٌ قُلْتُ قَدْ أَرَى ** وَلَكِنَّ نَفْسَ الْحُرِّ تَحْتَمِلُ الظَّمَا
وَمَا كُلُّ بَرْقٍ لَاحَ لِي يَسْتَفِزُّنِي ** وَلَا كُلُّ مَنْ فِي الْأَرْضِ أَرْضَاهُ مُنْعِمَا
أَأَشْقَى بِهِ غَرْسًا وَأَجْنِيهِ ذِلَّةً ** إِذًا فَاتِّخَاذُ الْجَهْلِ قَدْ كَانَ أَحْزَمَا
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ ** وَلَوْ عَظَّمُوهُ فِي النُّفُوسِ لَعُظِّمَا
وَلَكِنْ أَهَانُوهُ فَهَانَ وَدَنَّسُوا ** مُحَيَّاهُ بِالْأَطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا
ونحن اختصرنا من الأبيات لأننا نقصد الشاهد، فالذين دَنسوا مُحيَّ العلِم بالطمع في الدنيا، واللهث خلفها والجري وراءها، ومصادقة أهلها ولو كانوا أفجر الناس هؤلاء ليسوا بالعلماء، العلماء الذين يكتفون بما قَل، لأنَّ في إعزازهم لأنفسهم إعزازًا للعلم الذي يحملونه عن رَسُول اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهؤلاء العُلماء الصادقون، والغالب على العُلماء الفقر والعَوَز والحَاجّة، وذلك لأنهم أَعرَف الناس بالدنيا، فكانوا أزهد الناس فيها.
فيا معشر الأحبة، إذا ما نظرتم فانظروا إلى هؤلاء العلماء الذين ذكرنا بعض أوصافهم، والأوصاف لهم كثيرة، ولعلَّ الله أن يطيل في العمر فنذكر العلماء ونُبَيّنُ الفرق بينهم وبين من حاول أن يتزيَّى بهم بزيهم وليس من أهل العلم، إن شاء الله تعالى نُفرد ذلك بكلمة ونذكر العلامات الفارقة بين العالِم والمُتعالِم من عبارات السلف - رحمهم الله تعالى- جميعًا ورضي عنهم أجمعين.
أيها الأخوة في الله إنكم في زمانٍ قد كَثُر فيه المُدّعون، وتَواضَع أَهلُ العلم الصادقون، فغُمِروا في طفرة هذا الادِّعاء، وزادَ على ذلك وجود هذه القنوات المُرَوِّجة لكثيرٍ من الجهلاء والأدعياء، فراجوا عند العامة فظنوهم علماء فمالوا إليهم فسألوهم واسْتَفْتَوْهُم فضَلُّوا وأضَلُّوا كثيرًا عن سواء السبيل.
أسأل الله – جَلَّ وَعَلا- بِمَنهِ وَفضلِهِ أن يرزقنا وإياكم جميعًا العلم النافع والعمل الصالح إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
السؤال الأول:
هذا سائل يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ونحن نقول له: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
ثم يقول: يشهد الله سبحانه أنه يحبني فيه.
وأنا أقول له: أحبك الله الذي أحببتنا فيه، ونسأل الله – جَلَّ وَعَلا- أنَّ يجعلنا وإياك من المتحابين فيه.
يسأل عن قوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((آيَةُ النِّفَاق بُغْضُ الْأَنْصَار وَآيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَار)) هل هذا النفاق اعتقادي؟
الجواب:
نعم، اعتقادي، فلا ينطوي قلب على كره هؤلاء الأخيار إلا وهو مُجْرِم.
السؤال الثاني:
وهذا يسأل عن حَديث الثَّلَاثَةُ الذين يدخلون النَّارُ أَوَّلُ ما تُسَجر بِهِمْ النَّارُ.
الجواب:
هَذا الحَديث حَديثٌ صَحيح وقد أخبر به النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والواجب الإيمان بما أخبر- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، فإن من شهادته تَصْدِيقُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا أَخْبَرَ، طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ، وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ، واجْتِنَابُ مَا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ، وأَن لا نَعْبَدَ اللهُ جَميعًا نحنُ وإياكُم وجميع المسلمين إِلا بِمَا شَرَعَ هذا النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
السؤال الثالث:
هذا يقول: هل يَصحّ القول بأنَّ مَسألة وضع اليدين على الصدر بعد الرفع من الركوع لم يكن يتكلم بها أحد قبل سنتين؟
الجواب:
هذا غير صحيح، تكلم فيها أهلُ العلِم، والمسائِل التي تحدُث وتَجِد من المُستنبطين ومن المُجتهدين ولهم دليل يستدلونَّ به ومنزع ينتزعون منه، ووجه استدلال لا يضرّ العالِم فإنَّ باب الاجتهاد لأهلهِ مفتوح، كما قالَ النبي - صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- لِمُعاذ، وأيضًا كما سُئِلَ أمير المؤمنين عليّ - رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ- حينما سُئِل هَلْ خَصَّكُمْ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِشَيْءٍ؟ قَالَ: لا، إلا عبدًا أتاهُ اللهُ فهمًا في كتابهِ.
فالفهوم هبةٌ من الله - تبارَكَ وتعالى-.
السؤال الرابع:
هذا يسأل يقول: إذا دخلتُ إلى المسجد والإمامُ يخطبُ خُطبة الجُمعة؛ هل يجوز أن أُكَبِّر وأُصَلِّي تحية المسجد جالِسًا؟
الجواب:
لا، لا تُصلي جالِسًا وأنت مُستَطيع تُصلي قائِمًا، لأنَّ النَّبِيَّ - صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- يقول: ((صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا)) كما في حديثِ عِمران، الشاهد أنهُ لا يجوز لك أصلًا أن تجلِس حتى تُصَلِّي، إلا إذا كانَ هذا الرجُل مريض أو ذلكم الداخِل - من رجل أو امرأة- مريض لا يستطيع القيام فيُصلي قاعِدًا، وهذا القعود لا يضرّهُ، ولا يُعتبَر إنهُ جلَس قبلَ أن يُصلي تحية المسجد؛ لعل السائِل يُريد هذا المعنى.
السؤال الخامِس:
هذا يقول: أحد الإخوة يُريد أن يعمل في إيصال الغاز إلى المباني - إلى البيوت يعني والمساكن عمومًا- ويسأل هل يجوز لهُ أن يُوصل الغاز إلى الخمّارات - كأنَّ هذا في البلاد الخارجية- أو نحوها من المباني التي فيها من المحرمات إذا جاء الطلب من تلكم المباني؟
الجواب:
نقول لهُ لا، لا يجوزُ لك ذلك وأنت مُسلِم لأنَّ في هذا إعانةً لهم على باطلِهِم، إذا كانوا في الشتاء يتدفئون ويستمرون في الباطِل، وإذا كانوا في غير الشتاء يطبخون عليه ويستمرون في الباطِل في مقاهيهم ومجالِسِهم، لا تُوصِل إليهم.
السؤال السادس:
وهذا أيضًا يسأل عن الاقتراض من البنك بالربا لشراء مراجِل - يعني للتدفئة-؟
الجواب:
لا يجوز، لا يجوزُ لك ذلك، ابحث عن طريقةٍ أُخرى أو اجمع من مالِك حتى يُيَسِّر الله - جَلَّ وعلا- لك هذا الأمر ثُمَّ تشتري بعد ذلك.
السؤال السابع:
يقول: إذا جمعنا بين الصلاتين جمع تقديم العصر مع الظهر مثلًا بسبب الأمطار؛ فهل يرجع المؤذن بعد ذلك إلى المسجد في وقت العصرِ للأذان، أم يُبقي المسجد مُغلقَ؟
الجواب:
إذا جمعتم بين الظهر والعصرخلاص، لأنهُ قد علِمَ الناس ما دامَ المطر نازِل قد علِمَ الناس، والسُّنةُ في هذا أن يُقالَ لهم إذا استمّر ومن لم يأتِ للظهر يُقال لهم: صَلُّوا في رِحالِكم، إذا حضرَ من يقول هذا فلا بأس، فإنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد أمرَ بذلك إذا جاءَ وَقت العَصر فليأتِ القيّم أو المؤذِن وليؤذِن، وليقول عند حيّ على الصلاة يقول: صلّوا في رحالِكم، فإن خَشِيَ أن لا يفهموا كلمة رحالِكم؛ فليقُل: في بيوتكم.
وَلَيلة الأَمطَارِ وَالأَوحَالِ ** نَادِ أَن الصَلاةُ في الرِحالِ
ولعلنا نكتفي بهذا القدر والله أعلم، وَصَلَّى اللَّه وَسَلَّمَ وَبَارَك على عبدهِ ورسولهِ نبينا محمد.