إن الحمد لله نحمده ونستعينُه ونسغفِرُه ونتوب إليه، ونعوذُ بالله من شُرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آلهِ وأصحابهِ وأتباعهِ بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فحيّ الله الجميع في هذا المجلِس الذي نسألهُ -سبحانهُ وتعالى- أن يجعلهُ مجلسًا مُبارَكًا لنا لا علينا، وأن يجعلنا وإياكم وأن يجعلنا وإياكم ممن تغشاهم رحمة الباري، تَنَزَلُ عليهم سكينته، وتحفهم الملائكة ويذكرهُم اللهُ -جلَّ وَعلا- فيمن عنده.
أيُها الأحبة إنَّ الذي جمعنا في هذا المجلِس هو جامعٌ شريف، ورابطٌ كريمٌ مُنيف، ذلكم الجامِع هو حب العلم الشرعي وحب استماعهِ واقتباسهِ، والإلتقاء بطلبتهِ وحملتهِ، ولا يعدم الجالِس مع هؤلاء من الأجرِ العظيم،والثواب الجزيل، ولو لم يَكُن لهُ في هذا مقصَد إلا أنهُ أوى يستمع، فأواهُ الله، فهُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ.
أيها الأحبة إنَّ سببًا يجمعُ هذا الجمع لحريٌّ بأن يُتَعاهَد، وأن يُعتنى بهِ،ويُحتفى بهِ، أعني بهذا العلم، فطالبُ العلِم أشرفُ من يمشي على وجه الأرض، والعلِم على قسمين، القسم الأول لعموم المُسلمين، صغارِهِم وكبارِهِم وعامتهم نعني العوام، الذين لا يُطالبونَ بالتّوغلِ في العلم والتّبحر فيه،والتّوسع فيه، هذا القسم يجبُ على الجميع، طلبة العلم المبتدئين والعوامُ من المُسلمين يستوون في هذا، وأما المتوسطين والمنتهين فلا يُعدمون النفع بالمُراجعة مع هؤلاء والإستماع كُلما عُلِّمَ هؤلاء ولُقنّوا نعني العامّة ونعني الصِغار، فالمنوسط والمنتهي يستفيد تقرير الحفظ وتكريرهُ سببٌ في تقريره في صدره ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ [القيامة 16-18] فالترديد مع من يقرأ تأكيد للعلم في الصدر، هذا العلم هو العلم الضروري، إذ يجب على كُلِ مسلمٍ ومسلِمة أن يتعلموا هذا العلم الضروري، وذلك فيما لا يقومُ دينهُ إلا به من تحقيقِ توحيد العبادة معنى شهادة (أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- معرفة التوحيد بأقسامهِ الثلاثة ربوبية وإلهية وأسماء وصفات، فيجب على المسلِم أن يعرف حقّ اللهِ -تبارك وتعالى- عليه، في هذا الباب، فيُحقق توحيد العبادة لله وذلك بتخليصهِ من نوعيَّ الشرِك الأكبر المُحبط للأعمال، والأصغر المُنافي لكمالِ هذا التوحيد، وكذلك يَعرف ما لله -جلَّ وَعَلا-من الأَسماء والصفات، فيعلَم أنهُ لهُ اسماء حُسنى، وصفاتٍ عُلا يدعوهُ بها ويصفهُ سبحانهُ وتعالى بها، على حدِّ قولهِ -جلَّ وعلا- ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف 180] ويعلم ما لله -جلَّ وعلا- من الصفات من حيثُ الجملة، فيعلم أنَّ اللهُ بصيرٌ وسميعٌ وحيٌ وقادرٌ ومُتكلِمٌ، وأنهُ على العرشِ استوى، وأنهُ -سبحانهُ وتعالى- ينزِلُ في ثُلث الليل الآخر، إلى غيرِ ذلك من الصفات التي جاءت في كتابِ الله -جلَّ وعلا- فكلُ ما نطقَ بهِ الكتاب، ونطقَ بهِ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في سُنتهِ الثابتة الصحيحة بلا ارتياب، يجب أن يُثبت لله -جلَّ وعلا- على حدّ ما جاءَ في الكتاب والسُنّة، فيعلم هذا، ثُمَّ يَعلّم ويتعلّم ما يجب عليهِ في أمورِ عباداتهِ التي لا يستقيم دينهُ إلا بها، فيتعلّم الصبيان والعوّام، هذا على حَدٍ سواء ويستفيد من تكراره كما قلنا المتوسط والمُنتهي، فالمنتهي والشيخ والعالِم، يحفظ عليه هؤلاء الطلاب الصغار ويُلّقنهم ويُرددونه عليه ويشرحهُ لهم، لا يستنكف عن ذلك، ولا يستكبّر عنه، فلا يقول هؤلاء الصغار أنا لا أجلِس لهُم، بالعكس يفرح بذلك ويُربيهم على هذا فإنَّ هذا يورّثهُ تقرار العلِم ﴿وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ [آل عمران: 79]، والرباني في أحد التفسيرات وهو أشهرُها من يُربي بصغارِ العلِم قبل كِبارهِ فيتَدَرَج بالناس، وهكذا فيُعَلِمَهُم ما يجب عليهم من أمور الطهارة، إغتسال، الوضوء، إزالة النجاسة، ثُمَّ الوضوء، كيفية الوضوء، فروض الوضوء، نواقض الوضوء، يُعلمهم المسح على الخُفين، وما أُلحقَ بها من الحوائِل ، الجبائِر والعصائِب والتساخين والخِفاف، هذه كُلُها مبحثُها واحِد، ويعلمهم التيمم عند فقد الماء، أو عدم القُدرة على إستعماله، وهكذا بقية مسائِل الطهارة.
ثُم ينتقل بهم إلى الصلاة أركانها شروطها واجباتها، مبطلاتها، مسنوناتها. وهكذا ينتقل إلى الصوم فيُعلمهم حُكمهُ ويُعلّمهم وقتهُ، وبما يثبت الشهر وبما يخرُج، ومن متى إلى متى، وما يُفسِدُ الصوم، ما يُفسِدهُ مع الكفارة،وما يُفسِدهُ بلا كفارَة وهكذا، من يُباحُ لهم الفِطر ومن يباح لهم القَصر.
ثُم ينتقل بعد ذلك إلى الحجّ، فيعلمهم الحَج وأركانهُ وواجباتهِ وصفة حجة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإذا اتقنّوا ذلك إتقانًا تامًا، بعد ذلكَ هُم مُخيرون، من أراد أن يستمر في العلِم استمرّ، ومن أرادَ أن ينصرف إلى أعمالهِ وأشغالهِ ولم تُهيأَ لهُ الفُرَص، فإنهُ ينصرِف وقد استوى هو والطفل والعالِم الكبير في هذا الباب، بمعنى أنهُ شارَكهم في معرفة ما يجبُ عليه، فالطفل الصغير يُشارِك العامي الكبير، وهما جميعًا يُشارِكانِ العالِم في معرفة هذه الأمور من حيث الجُملة، وإن كانَ العالِم يستقلّ عنهم بمعرفة التفاصيل والإستدلال، وكيفية الإستدلال ومعرفة الراجِح من المرجوح والخلاف في بعض هذه الصوّر والمسائِل لكنّ هذا ما يجب على العامّة، ولقد أدرك العلماء –رحمهم الله تعالى- هذا، فاعتنوا بهِ اعتناءًا كبيرًا، فجعلو العَوام والصبيان درجة، وجعلوا طلبة العلِم درجة، المبتدئين، المتوسطين، والعلماء درجةً أُخرى، فألفّوا لهم على هذا النحو، فأنتَ تجد مثلًا الإمام بن قُدامة -رحمه الله تعالى- يكتب في هذا الباب كتبًا على هذا التدريج، فيكتُب (العمدة في الفقه) على قول واحد للمبتدىء مصحوب بالدليل، للمبتدىء يلم فيه بأبواب الفقه إلمامًا كاملًا على قولٍ واحِد مع دليلهِ، فإذا أتقن العامة مثل هذا الكتاب هذا خيرٌ عظيم، إذا أتقنَّ الطلبة في إبتداءِ طلبهم هذا الكتاب، هذا خيرٌ كبير، ثم ينتقل بعد ذلك لما هو أعلى منه فيأتي إلى (المُقنِع) إلى (الكافي)، ثم ينتقل بعد ذلك إذا أراد وتقدّم وتقدّم، يصل بعد ذلك إلى (المُغني) فالتَدَرُج في هذا دأبُ من كانَ قبلَنا لأنَّ الأوقات قصيرة الأعمار قصيرَة والكتب كثيرة، فحسب الطالِب أن يتدّرَج وحسب العاميّ أن يأخذ ما يجب عليه، والعلم معشَر الأحبة إذا لم يُأخَذ بالتدرّج حصَلَت الفوضى فيه لدى طالِب العلِم، ماهي الفوضى؟ تجدهُ كل ما بدأَ بكتاب يستمر فيه قليلًا ثم يتركه فلا يُمكن أن يُتمهُ، فإذا سألتهُ عن آخر الكتاب لا يعرف أبوابه وربما كُتَبهُ، وهكذا إذا مرّ على بعض الكتاب، ربما تركَ بعض فصوله، وانتقل إلى كتبٍ وأبوابٍ أخرى فيه وهكذا انتخّب، فتجدهُ ليس مُرتبًا في علمهِ، وبذلك تجدهُ مُشوشًا، تأتيهِ المسألة ما كأنهُ قرأَ، هذا من الحرمان، فينبغي لطالب العلِم إذا ابتدأَ وأرادَ أن يُواصِل أن يأخذ العلم مُرتبًا، وعليهِ أن يستصحِبَ الصبر، الصبر فإنَّ المشايخ لا يخلونّ من العوارِض، وأنتم لو راجعتم كُتب التراجم الأولى لوجدتم هذا في سماعِ حديثِ رسول الله -صلى الله عليهِ وسلم- فتجّد أحيانًا طالِب العلِم يقرأَ بعض صحيح مُسلِم، نصفه ولا يستطيع أن يُتّمهُ على هذا الشيخ، يرحَل الشيخ أو يموت أو يأتيهِ من الشُغل ما يجعلهُ ينتقل ويتحول عن هذه البلاد التي فيها هؤلاء الطلبة، فيُكمِل هذا الطالِب بقية هذا الكتاب مع عالِمٍ آخر، قال من هنا إلى هنا سمعتهُ على فلان، ومن هنا إلى هنا سمعتهُ على فُلان، والمقصودُ من ذلك أمران:
الأمر الأول: إتمام الكِتاب، والثاني إتصال الإسناد بهِ كاملًا إلى المؤلف إلى رسول الله -صلى الله عليهِ وسلم- فالمشايخ على حسب ما يتيسرّ لك.
وإذا دخلت فلا تقل الشيخ الفُلاني قد بدأَ في الكتاب أنا أبحث عن واحد أبدأ معه من جديد، هذا صعب! قد يتأتى لكنهُ في الغالِب صعب، أُدخُل معهُ في الكتاب من حيثُ هو،فإن كانَ عندك خلفية بما تقدّم فالحمدلله، مافيه، وإلا وفي هذا الوقت لله الحمد سببٌ عظيم يُشبه ما عند الأولين ولكنهُ أسهل، الأولون كانوا ينسخون ما فاتَهُم وأنتَ الآن تسمع ما فاتَك مُسَجَلًا فتستطيع أن تلتحق بهذا الشيخ في هذا الكتاب فتكونُ قد سمعتهُ كاملًا، هذا خيرٌ من الله -تبارك وتعالى- وأنا أُنبّه على هذه الناحية لأنَّ كثيرًا من أبنائنا يأتي ويريد أن يدرس الكتاب على الشيخ من أوله والكتاب قد بدأَ بهِ الشيخ، صعب أن يرجِع إلى الأول لأنَّ الوضع ليس كالوضع في القِدم، في القِدم الناس متفرِغون على غيرِ حالُنا نحنُ الآن، فالعالِم إذا قَعَد هو العالِم المُدّرِس مدير الحلقات، مثل ما تقول مدير المدرسة، يُدّرس هؤلاء ثُمَّ ينتقل إلى هؤلاء ثم ينتقل إلى هؤلاء، هذه كلها مدرسة واحِدة، الآن لا لهُ أعمال مُتَعَددة، وأشغال كثيرة، فأنت خُذ منهُ ما يتيسّر، وإذا دُرّت على آخرين من المشايخ فإنك سَتُحَصِل -بإذن الله تباركَ وتعالى-.
فالواجِب على الإنسان أن لا يجعل بينه وبين مجالِس المشايخ في كتبهم ودروسهم التي بدأوا فيها، أن لا يجعلُ بينهُ وبينهم حاجزًا بقولهِ (قد فاتني) لا، لا يفعل، يحضر من حيثُ هُم مستمرون مواصِلون،ويأخُذ ما فاتهُ بإذنِ الله -تبارك وتعالى- وبهذا يُحصِل، فإذا استّمَر طالِب العلِم، فأنا أُوصيهِ بأربعةِ أمور:
الأمر الأول: الحرص على تدقيق وتحقيق المَتِن، هذا أهمّ ما يجبّ عليه، يُصححهُ حتى يتأكّدَ تمامًا مِن سلامةِ كتابهِ بضبطهِ إياه، فإذا ضَبَطَ مَتنه واستقام، سيستقيمُ لهُ حينئذٍ تفهُمُه، هذه الوصية الأولى أن يحرص على ضبط الكتاب من أولهِ إلى آخرهِ وإتقانهِ للمَتِن.
الثاني: أن يواصِل مع الشارِح ويُقيّد ما يُشكِل.
الثالِث: أن يسأل الشيخ عمّا أشكلَ عليه، فلا يستحي ويخرُج والكتاب بين يديهِ وفيهِ ماهو مُستغلقٌ عليه.
الرابِع: أن يصحَبَ ذا الهمّةِ العَليّة، لماذا؟ لتحصُلَ معهُ المُذاكَرَة والمُراجَعَة.
فبهذا يَتَقّرر العلِم في صدرِ صاحبه، فإنَّ مُراجعة المسائِل بينَ طلبة العلِم الذين يدرسون على شيخٍ واحدٍ في كتابِ واحِد من أعظم الأسباب في تثبيتها، والأولون كان عندهم هذا، وفي حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاصةً كان عندهم هذا، وهو مجالس المُذاكرة، فالمُذاكرة يتذاكر فيها طلبة العلم ماسَمِعوا، فما فات هذا ينبهُه هذا، وما استغلق على هذا يبينّه له هذا، وما سَمِع مَغلوطاً يصححه له هذا، وهكذا.
فَصُحبة ذي الهمّة العليّة من أعظم الأسباب في الاستمرار في طلب العلم، وابتعد عن الكُسالى، إياك ومُصاحبة الكُسالى، لأنهم يجرونك إلى ما هم فيه، إلى الحضيض الأدنى، وأنت تريد العلوّ، ومن كان ذا همةٍ عليّةٍ فإنه لا يصحبُ إلا من كانَ على شاكلته، فذو الهمّة العليّة يَعلو بك، وذو الهمّة الضعيفة يُضعِفك، فلا تصحب الضعيف وإن كان فيه خير، ولكن اصحب القوي الذي يأخذ بيدك إلى العلو، فعلى طالب العلم أن يحرص على هذه الأمور كما يحرص على درهمه وديناره.
وأيضًا أن يحرص على الوقت، فلا يصرفه إلا فيما يعود عليه بالفائدة، وأن يتجنب مجالس الجدال التي لا طائل تحتها، والنقاش الذي لا يُراد به التوصل إلى معرفة الحقّ بدليلهِ، فإن هذه مَضيعة للوقت.
فَيُحصّل طالب العلم بهذه الطريقة إذا حصَّل أشياخه، وأدرك من أدرك ممن كتب الله له إدراكهُ من العلماء، وصاحب من صاحب من أصحاب الهمم العالية إذا كتب الله له -جَلَّ وَعلا- ذلك فقد وُفق لخيرٍ كثير.
ثم عليه أن لا يدع المتون المشهورات، فليحرص على حضورها مع الأشياخ، يبتدأ بالمشهورات في الفنون، هذا بعد المواصلة يحرص على حضور حِلق العلماء في المتون المشهورات، والكتب المشهورة التي ذاعت وشاعَت بين الناس شرقًا وغربًا في مختلف الفنون، في الاعتقاد في التفسير في الفقة، في أصول الفقه، وأصول الحديث ، في الحديث، في اللغة العربية وهكذا.
وليبتعد عن المغمور، وليبتعد عن المهجور من باب أولى، فإذا كان هذا الكتاب الفقهي يغلب عليه الأقوال الضعيفة أو المرجوحة فلا يُعتّد به، فلا ينبغي له أن يعوّل عليه، لأن الفِقه عند العلماء على مراتب، الكتب فيه على مراتب، ما بين متفق عليه عند أصحاب المذهب، وما بين مشهور وهو الراجح وما بين مرجوح، وما بين ضعيفٍ أو شاذ.
فالشاذّ والضعيف لا يعوّل عليه، لكن عليك بالأول وهو المتفق عليه عند الفقهاء في هذا المذهب مثلاً، في الفقه الحنبلي، في الفقه المالكي، في الفقه الشافعي، وهكذا، عليك بالمشهور المتفق عليه ثم المشهور عندهم، ثم ما تكافأت أدلته، ما كان فيه القولان متكافآن، عند أصحاب المذهب، ثم يأتي بعد ذلك المرجوح، والضعيف والشاذ لا عبرة به.
فعليك أن تتقي الكتب على هذا النحو، فلا تذهب للمهجور والمغمور لِتُغرِبَ به على من لا يعلم ولا يعرف، فإن هذا في الحقيقة ليس ميزة، في الحقيقة هذه ليست ميزة، وإنما هي في الحقيقة مضيعة للوقت، فالميزة أن تعتمد على المُعتمد عليه عند العلماء في كُلِ فن، في جميع الجوانب العلميّة فاعتني بالمشهور ودع عنكَ المهجور فضلًا عن الضعيف، وإياك وتتبّع ذلك فإن الوقت يضيعُ فيهِ بلا فائِدة، أو بلا ثَمَرَةٍ في مُقابِل ما اُنفِقَ فيه من الوقت ثمرة ضعيفة جدًا، ونحنُ نرى بعض أبنائنا اليوم يعتني بالكُتب يجمع كُلَ ما هبَّ وَدَبّ، فما أكثر الكُتُب عندنا، ولكن ما أقلَّ العلِم، والأولون ما أقلّ الكتب عندهم، لكن ما أكثر العلِم، لماذا؟
هذا هو الفارِق بيننا وبينهُم، كانوا يعتمدون المُعتَمد، وعُمدتهُ من يعتمِدها يُحصّلِ، فأنتَ إذا اعتمدّتَ المُعتَمَد حصلّت أما إذا ذهبت إلى الضعيف أو الشاذّ المهجور، فأنتَ لا تَسلَم أن تُنسب إلى الضعف في علمِك، أو إلى الرميّ لك بالشذوذ إتبّاع الشواذ في العلِم، وكلا الأمرين مَذّمَة، فما استفدّت بل حصلّت الذمّ.
نعم، المعرفة بالضعيف والشاذ للمرء إنما يكون من باب الدراية به، لا من باب إتلاف الوقت فيه،وتضييع الوقت كُلهُ فيه، هذا للعالِم بعد أن يُحصلَ في أصوله في هذه الفنون، يُعرّج علي هذه الكُتب ليعرف هذه الأقوال الضعيفة، ويعرف هذه الأقوال الشاذّة المهجورة، المغمورة عن هؤلاء العلماء، أو في هذه المذاهِب التي يُحكى هذا القول ويُنسب إليها، فلا تُذهِب وقتَك في الإعتناء بهذه الكُتب المهجورة، وعليك بالكُتب والمتون المشهورة بين العلماء، فهذا تُحصلُ بهِ العلم بإذن اللهِ -تبارك وتعالى- ولا يغرنّك أن طُبِعَ هذا الكتاب طبعةً مُزركشة مزخرفة، فإنَّ اليوم بعض الناس يشتري الكتُب لطباعتها لا لحقيقتها، فكم من كتابٍ زُخرِف وزُيّن وإذا جيء بهِ إلى المُتَفَحصين لو عرضتهُ على عالِم قال لك: نعم لكن ترى ليس بشيء في بابه، ما استفدّتَ شيئًا، فعليك بما ذكرت.
أيضًا على طالِب العلِم أن لا يتعَجل ويتأنى، وليعلم أنَّ هذا العلِم من رامهُ جُملة حُرمهُ جُملةً، فلابُدَّ فيهِ من التدرّج، فإنَّ الله -سبحانهُ وتعالى- أكملَ لنا الدين، وأتمَّ علينا النعمة، بعد مُضيّ ثلاث وعشرين سنة يُجاهِدُ فيها رسول الله -صلى الله عليهِ وسلم- ويُبيّنُ أحكامَ هذا الدين القويم لصحابتهِ ولكلِ من آمنَ بهِ، وأسلَم وقبلَ دعوته عليهِ الصلاة والسلام- حتى أكمل الله به -سبحانه وتعالى- الدين، فإذا كان هذا الكتاب الذي هو أصل العلومِ كلها أنزلهُ الله منجمًا في ثلاثٍ وعشرين سنة، فكيفَ بغيره من الكتب الأُخرى التي هي من كلام الناس فيها الصحيح، وفيها الضعيف، وفيها الناقِص وفيها التام، ويحتاج إلى أن تُبيّنَ لهُ، هذا لا يتم إلا بالقراءة للكتاب مرة ومرتين وثلاث إن حصل لك، فلا تَقُل قد قراءته، عليك أن تصبرولو حصل لك تقرأهُ على ثلاثة من العلماء المختصين في هذا الفن، فاقرأ ولا تتردد.
وهذا أمرٌ معلوم، وقد إعتنى به العُلماء السابقون.
أضرب لكم مثالًا، كتابٌ صغير عند عُلماء المالكية للإمام عبدالوهاب المالكي البغدادي، رئيس المالكية بالعراق، وبه يقولون خُتم المذهب المالكي في العراق، كتب كتابًا صغيرًا إسمهُ (التلقين)، في الفقه على مذهب مالك، كم تتابع من فحول علماء المالكية على شرحهِ، وكم حصل لبعض العُلماء الكبار فيهم من أغلاط، بسبب إيهام بعض العبارات للقاضي عبد الوهاب فيه، فصار بعضهم يستدرك على عبد الوهاب، وبعضهم يستدرك على من مشي على خطى عبد الوهاب في هذا ولم يتنبه له، فاحتاج إلى أن يتوارد عليه جمع من أهل العلم من كبار علماء المالكية وفحولهم، والكتاب صغير إسمهُ (التلقين)، هذا (كتاب التلقين) لطلبة العلم المتدئين، يحفظونه حفظًا كما تُحفظ الفاتحة، في الفقه المالكي، فاختلفت فيه عبارات الشُرّاح في بعض المواطن، ما بين المشارقة وما بين المغاربة في هذا الباب، فتجد بعضهم يخطيء بسبب إيهامٍ لعبد الوهاب ويأتي الآخر ويُصوبّه، وبعضهم يشرح فيُصبح شرحهُ يحتاج إلى شرح، فيأتي الآخر ويحشي ويُعلّق على ذلك الشرح، فما هذا إلا للاهتمام بنا نحن، حتى لا نقع نحن في هذهما؟ في هذه الأوهام والأغلاط، فإذا قرأ الإنسان الكتاب على أكثر من عالم إذا تيسر لهُ ذلك، فهذه نعمة من الله كبيرة جدًا، لأنه ما من عالم إلا ويفوت عليه، فالذي يفوت على هذا العالِم، يأتي العالم الآخر ويبينهُ لك ويستدركُه، فأنت مُستفيد في جميع هذه الأطوار، فالأناة والتريث وعدم الاستعجال في التلقي والتحصيل، هذا من أعظم الأسباب التي يفتح الله -سبحانهُ وتعالى- بها على طالب العلم، أما أن يدرس أربع سنوات مثلًا، في الكلية ويريد يخرج عاِلم، هذا ما هو صحيح، أبدًا ولكن هو ما يأتي إلى الكلية إلا وقد تأَهّل يدخل الكلية وعمرة كم؟ أقل شيء ثمانية عشر سنة، ستًا وستًا وستًا، ست ليدخل فيها الحِلَق ، إبتدائي، وست يدخل بها إلى المتوسط والثانوي مع عمرة ست، ثماني عشرة، فيأتي إلى الكُلية وهو شاب قد بلغ تكون أصول العلوم قد حصلّها، فيبتدأ في الطلب حين إذن، ونقول هذا لما؟ لأنه قد بدأت مداركه تتفتح، وعقلهُ بدأ في الفهم وبدأ في الإدراك، وتصوّر المسائل، أما المرحلة الأولى فهي مراحل الإعتناء في التأصيل للحفظ لهذه المتون أو لهذه العلوم، من قرآنٍ وإعتقادٍ وأصولٍ في الأصلين، الإعتقاد في أصول الفقه ، أصول الحديث، ومعهُ المتون، متنٌ في الفقه، متن في الحديث، وهكذا، يأتي وقد حصل، العربية، يأتي وقد حصل الأصول التي يبني عليها الطلب، تَأَهل في هذه المرحلة، ففي هذا السن يبدأ يتَفّهم ويتعّلم، لأن المراحل الأُولى قد تجاوزها، إنما التعليم بالتعلمِ، والحفظ والتدقيق والتفهمِ، فلما دقّق المتون وتقدّم إلى أن بلغ هذه السن الأن جاء دور التفهيم، فقبلهُ التلقين، والآن إيش؟ التلقيين تحفظ، التفهيم تفهم ما حفظتَ، وتأخذ وتعطي مع الشيخ وتناقش، وتفهم المسائل التي تُشكِل عليك إذا شرح لك شيئًا وبقي فيه ما يُشكل عليك، فبهذه الطريقة يكون التعلم، وبهذه الطريقة يكون التلقيّ الصحيح وكما قلتُ لك أهم شيء الصبر، فإن الصبر هو الذي يورث صاحبهُ الخير، ونحن -ولله الحمد- في بداية هذا الفصل، نسأل الله -جل وعلا– أن يُعيننا وإياكم، وادعو لأبنائي الذين يقرأون علي (السُّبُل [السوية]) -وأنا أرى الأخ ناصر-، أدعوا الله لهم أن يورثني وإياهم الصبر حتى يتموا هذه المنظومة المباركة، وكذلك الابن عبد العزيز الجزائري -لعلهُ الأن ما هو معنا-، فهو من أحرص من مرّ عليَّ في كتاب (السبل)، يسردها حِفظًا لا يتلكأ في جميع ما مرّ علينا -وفقنا الله وإياه-، كما سمعهُ كثيرٌ منكم كما تقرأون الفاتحة، فهكذا يكون الحفظ، وتكون المراجعة، والمداومة على ضبط الحفظ بالمراجعة ، إذا أتقنتهُ من أول وهلة تمشي بعد ذلك وتقرأهُ في الطريق قائمًا مضطجعا إلى غير ذلك، يسهُل عليك استحضارهُ.
فأنا أسأل الله سبحانهُ وتعالى أن ييسر لهم الإتمام وأن يُعينني على أن أواصل معهم ومع إخوانهم الذين قد بدأوا في بعض المتون على الإتمام، وإن شاء الله تعالى يتيسر لنا في هذا الفصل التدريس وما ننتظر إلا إصدار الجدول حتى يكون الترتيب على ضوءهِ بإذن الله -تبارك وتعالى- فإذا عرفنا الجدول في الأصل الذي هو الكلية سهل بعد ذلك، الترتيب لكم معشر الأبناء في هذا المسجد، إن شاء الله -تعالى- نواصل بإذنه وحولهِ وقوتهِ ، ونعتذر إليكم فيما مضى لاعتلال الصحة والحمدُ لله، على كل حال فنحن الآن بخير حال، ونسأل الله -جلَّ وَعلا- أن يزيدنا من فضله، وأن يوفقنا وإياكم جميعًا لما يرضيه، وأن يمنّ علينا وعليكم بسلوك مراضيه، إنهُ جوادٌ كريم.
صلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
السؤال الأول :
هذا يسأل عن السيارات.
الجواب:
على صاحبه أن يوضح السؤال أنا ما فهمته، يسأل عن السيارات في شركة فعليه أن يوضح السؤال.
السؤال الثاني:
وهذا قد أجبت صاحبهُ لكن لا بأس، يسأل، يقول: كيف تكون المعاملة الحسنة لأهل البدع؟
الجواب :
أهل البدع ما يدخلون في هذا الباب أهل البدع ليس لهم عندنا إلا الهجر، لكن من ظُن أنهُ جاهل، وإلتبس عليه الأمر أو لبّسوا عليه فإنك تبين لهُ، وتدعوه إلى الله -جلَّ وعلا- بالحسنى، وتبّين له أن هذه الطريق، التي هو فيها أو سيق إليها وإقتيد إليها، لا تصلح إنها طريق ظلالة ، وتبين له بما يُورثهُ الفهم، فإن تبيّن ورجع فالحمدُ لله، وإلا ألحقتهُ بأهل البدع، أما ماذا تريد بأهل البدع تسلم عليهم، وتبسم لهم، وتعاشرهم ، هذا خلاف ما عمل به سلفنا الصالح، أهل البدع البدع، ليس لهم إلا الهجران والإذلال، والإقصاء حتى يعلم الناس أن هذا بدعة، وأن هؤلاء متدعة فينزجروا عن هذه البدعِ المضلة والأهواء المردية.
السؤال الثالث:
هذا يسأل عن القدرية والخوارج؛ هل هم من الاثنين وسبعين فرقة؟
الجواب:
نعم، أما الروافض والجهمية ليسوا من هؤلاء.
لعلنا نكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.